الشريف مبارك بن ناصر البركاتي ( أبو ملوخية )
إلى جنة الخلد بحول الله
بقلم : الشريف حشيم بن غازي البركاتي
ص. ب: 551177 مكـة المكرمة 21955
في صبيحة يوم الثلاثاء الموافق 18 / 9 / 1430هـ فُجع الأشراف بمكة المكرمة وخاصة الأشراف آل بركات , بوفاة علَم من أعلامهم , وجهبذ من جهابذتهم , وعارفة من عُرافهم , ذلكم هو الوالد الأجلّ الشريف مبارك بن ناصر بن سالم البركاتي عليه رحمة الله تعالى , وهو من فرع الأشراف ذوي سالم من خامس الأشراف ذوي مساعد ( المشتهرون بآل أبي ملوخية ) من فخذ الأشراف ذوي رضا من بطن الأشراف ذوي موسى من الأشراف النمويين آل بركات .
ولقد سبقني إلى الكتابة عن هذا الرجل أخي الحبيب الشريف إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير الذي تعودنا منه الوفاء , ولا سيما لأهل المواقف الرجولية معه وفقه الله , وقد كفانا بدوره الكتابة عن الولادة والنشأة وأبرز الأعمال والوفاة .
إلا أن ما حفزني لكتابة هذه النبذة , هو قربي وقرابتي من هذا العلَم غفر الله له وتغشّاه برحمته , وصداقتي له ولأولاده ــ طرح الله فيهم البركة وأخلف عليهم في مصيبتهم بفقده ــ ولاسيما صاحب الفضل عليّ منهم بعد الله , أخي العزيز الشريف محمد بن مبارك بن ناصر البركاتي , الذي يعد سر أبيه وتلميذه النجيب , ووجيهاَ من وجهاء جماعته وأهله وفقه الله .
والحقيقة أن لي بهذا الفقيد العَلم علاقة أحسبها تشبه علاقة الولد بالوالد , وصداقة استمرت زهاء العشرين عاماَ من الزمن , تمكنت بها ومن خلالها أن أكوّن صورة واضحة ــ من وجهة نظري ــ عن هذا العَلم , فقد اشتهر بمهنة المحاماة الشرعية التي أفرغ فيها كل خبرات عمره حتى أصبح باقعة من بواقع زمانه في علم المحاماة , وحتى أنه كان لا يأخذ من القضايا إلا المستعصية , استناداَ على تمكنه وخبرته في هذا المجال , إذ كان لا يشق له غبار رحمه الله .
ولقد وقع هذا العلَم ــ عليه رحمة الله ــ بين المحب والكاره , وبين المعتدل والمغالي , وبين المفرط والمفرّط , ونظراَ لقربي منه ــ أفسح الله له في قبره ــ أحببت أن أجلّي صورته للقارئ الكريم عبر بعض المواقف التي أحسبها أنها كفيلة بذلك :
أولاَ : تقديره ومحبته لأهل العلم وطلبته : فقد كانت أولى زياراتي له بصحبة أخينا الحبيب الشريف فؤاد بن عمر بن عطية الله البركاتي ــ صهره على ابنته ــ بغية الاستفادة من علمه وروايته في تاريخ الأشراف آل بركات وذلك في ثنايا سنة 1411هـ تقريباَ . ولما أن لمس مني التمكن والرغبة في خدمة البيت , آثرني بالقرب عن الكثير حتى أصبح معلوماَ للجميع ممن حوله وخاصة جماعته الأقربين أنني صديقه المقرب من جيلي , وذلك لكثرة ما كان يذكرني عندهم في ظل حسن ظنه رحمه الله . ومن المواقف في هذا المقام : أن والده الشريف ناصر بن سالم ــ رحمه الله ــ كان أخا من جهة أمه لمجموعة مباركة من بني عمومتنا الأشراف آل زيد , وهم ذرية الشريف عيد بن سليمان بن أحمد آل زيد , كل من : صادق , ونايف , وفيصل , وبجاد , ومنهم صديقي العزيز الشريف عمر بن فيصل بن عيد آل زيد شاعر الأشراف المعروف , الذي بدوره هو ابن عم للشريف مبارك رحمه الله , والذي أخبرني أن الشريف مبارك كان إذا ما عرّف به إلى الآخرين , يقول لهم ( صاحب الشريف حشيم ) قبل أن يقول لهم أنه ابن عم له . وهذا وأيم الله لدليل بيّن على تقديره ومحبته لي غفر الله له , وقد تمخض ذلك التقارب فيما بيني وبين الفقيد عن إصداري للمشجرة الخاصة بجماعته في عام 1416هـ والمسماة ( مشجرة منتهى الرضا في نسب الأشراف البراكيت ذوي رضا ) , والتي تكفل بطباعتها على نفقته الخاصة أخلف مولانا عليه ذلك بالقبول . ولم يكن هذا التقدير منه لشخصي فقط , بل كان يشمل كل الباحثين الجادين من أمثال الأخوين الكريمين : الشريف أحمد ضياء العنقاوي , والشريف إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير , فتجده يسر بزياراتهم واتصالاتهم بل ويستقبلهم كأجمل ما يستقبل الرجل ضيفه كافأه الله بالمثل وزيادة .
ثانياَ : استشارته لأهل العلم وطلبته : فقد استضاف ذات ليلة في داره العامرة بحي النوارية من أحياء مكة المكرمة ــ شرفها الله ــ مهندساَ من الباكستان وهو قريب وصهر لدولة رئيس وزراء الباكستان الأسبق نواز شريف على ابنته , وأخذ ذلك الضيف يسأل عن بعض الأعقاب والذريات العلوية الهاشمية في بلادنا , ولمّا أن أكثر الأسئلة اتصل بي الشريف مبارك رحمه الله هاتفياَ طالباَ مني الحضور على وجه السرعة لمساعدته في الإجابة على أسئلة ضيفه مع حسن ظنه بي , فلبيت طلبه مسرعاَ وحضرت إلى داره واستمعت إلى أسئلة ضيفه , وقد تبين لي حســـب إفادته بأنهم أسرة علوية في الباكستان ينتمون إلى الإمام محمد ( الشهير بابن الحنفية ) بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه , وقد أجبناه سوياَ بما نعرف .
ولمّا أن ادّعى أحد بيوت المدينة المنورة ــ على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم ــ النسبة إلى الأشراف ذوي رضا من آل بركات , استدعاني الفقيد هو وعمه والدنا الشريف عبدالله ( الشهير بالبيه ) بن سالم البركاتي ــ عليهما رحمة الله تعالى ــ للحضور إلى مجلسهم حين قدوم أولئك الناس , ولمّا أن قدموا وأخذوا واجب الضيافة قدموني لضيوفهم بأنني أنا المخول بالنظر في دعواهم والوقوف على ما في أيديهم مما يعتقدونه دليلاَ على تلك الدّعوى على الرغم من كبر سنهما في طاعة الله , وما ذاك إلا من حسن ظنهما وجميل تقديرهما غفر الله لهما .
ثالثاَ : تواضعه ودعمه لطلبة العلم : في عام 1412هـ دعاني الشريف فوزان بن رازن بن فايز العمري البركاتي ــ عليه رحمة الله ــ إلى زيارة الأشراف العمور من آل بركات في واديهم وادي هدة الشام , وذلك لمقابلة كبارهم وأهل المعرفة فيهم إبان جمعي وتحقيقي لأنساب الأشراف آل بركات , فطلبت من الشريف مبارك ــ غفر الله له ــ أن يصحبني إليهم لمعرفته لهم وصداقته لبعضهم فلبى بنفس سمحة متواضعة , ولمّا أن خرج بنا الطريق عن الطريق الرئيسي الخارج من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة والمتجه إلى طريق هدة الشام وبعد قرية الغزيات , أخذ الشريف مبارك يشير إلى الكثير من الأراضي والمواقع بأنها له وفي ملكه , وأعقب ذلك بقوله : ( يا شريف أنا رجل أعرف شرع الله , والله لم آخذ شبراَ من هذه الأراضي إلا بحقه , فقد رميت في هذه التربان ثمانية وعشرين مليونا ) . وقد جمّلني رحمه الله أمام أبناء العمومة الأشراف العمور , لمّا أن وصلنا إليهم .
كما أنه يفرغ نفسه ويقتطع من وقته لخدمة الباحثين الجادين , فحينما كان شيخنا وأستاذنا الوالد الشريف محمد بن منصور بن هاشم آل عبدالله بن سرور , في خضم كتابة بحثه عن العيون في الحجاز وبعض من أوديته , وأراد أن يكتب عن العيون في وادينا وادي مر الظهران ( المعروف بوادي فاطمة ) , طلب مني أن أبحث له عن شخصية ذات خبرة ودراية بأحوال العيون فيه , فذهبت إلى الشريف مبارك وعرضت عليه ذلك الأمر فلبى على الفور تلك الخدمة واستعد لها بحفاوة بالغة , وخرجنا سوياَ من أعلى وادي فاطمة حتى أسفله وأفرغ لنا كنانة علمه وتمم ذلك بضيافة تليق بالباحث وصحبه عليه رحمة الله , فكان هذا الأمر مثار الإشادة من الشريف محمد بن منصور بخبرات الفقيد ومدى سعة علمه فيما سئل عنه في ثنايا كتابه , بل أجزل له الشكر في مقدمة الكتاب , وتعدى ذلك بشراء الفقيد لكمية من ذلك الكتاب وقام بتوزيعها على طالبي المعرفة من محبيه ومن يلوذ بمجلسه , وما ذاك إلا تشجيعاَ منه للباحث وأمثاله .
رابعاَ : مسارعته لدعم المحتاجين والغارمين : فقد أخبرني سيدي الوالد ــ يحفظه الله ــ بأن الشريف مبارك كان كثير الإحسان إلى الأشراف , فقد لقي أحد قرابتنا في الحقوق المدنية بمكة مطلوباَ في دين عليه يقدر بخمسة آلاف ريال , فما كان منه إلا أن سدد عنه ذلك المبلغ دون طلب منه لذلك وأطلق سراحه على الفور أثابه الله , بل لمست أنه لا يخيب قاصده للمساعدة على الإطلاق , وقد حدث معي أنا شخصياَ هذا الأمر عليه رحمة المولى سبحانه .
خامساَ : دفاعه عن الأشراف ورد المتطاولين عليهم بدون وجه حق : فقد أخبرني ــ كافأه الله بالمثل وزيادة ــ أنه كانت لديه مشكلة من المشكلات حول إحدى مساحات الأراضي التي كانت له , وطال النزاع حولها وكثر الرفع من قبله من أجلها إلى الجهات المعنية لحسم موضوعها , فأرسلت له إحدى الجهات الرسمية محققاَ لتقصي هذا الموضوع , فالتقى به تحت المكبرية في بيت الله الحرام , وبعد أن تعارفا وكان ينتمي لأحدى حمائل نجد الشهيرة , وجه ذلك الرجل سؤالاَ إلى الشريف مبارك قائلاَ : ( يا شريف شوفنا في بيت الله الحرام وأمام الكعبة المشرفة , وأبي أســـــألك سؤال وأبي جوابك الصريح , انتو ليه ما تجوزون ؟ ( يقصد تزويج الأشراف بصفة عامة لبناتهم إلى غير الأشراف ) , فأجابه الشريف مبارك بقوله : ( جواب سؤالك متعلق بالجواب على سؤالي وشوفنا حنا في بيت الله الحرام وأمام الكعبة المشرفة , لو جاك خضيري ( الخضيري في نجد هو الشخص الغير معروف أصله ) تجوزه ؟ فانتفض ذلك الرجل , وقال : يا شريف غيّر الموضوع .
وأمر تزويج بناتنا لأولادنا أو لغيرهم موكل إلينا لا لغيرنا , إلا أن بعض الناس قد شغلهم هذا الموضوع بما حملهم على التهجم على الأشراف حاملين لواء الدفاع عن بناتنا نيابة عنا دونما تكليف أو حتى حق في التدخل . وقد كان جواب الشريف مبارك ــ رحمه الله ــ كافياَ شافياَ بل ملجماَ وبشكل قوي , ويعبر عن حق الأشراف في أمر تزويج بناتهم كما هو الحق لغيرهم في أمر تزويج بناتهم , أصلح الله الجميع وهداهم إلى كل الخير .
سادساَ : معرفته الواسعة بأعراف الأشراف في الحجاز : فقد كان الشريف مبارك ــ رحمه الله رحمة الأبرار ــ عارفة من عرّاف الأشراف في زمانه ومن العارفين بقانونهم القبلي الذي كان معمولاَ به لديهم , ولا زالت له بقية , حيث كان ينتخب ويختار من لدن القبائل أو الأشخاص المتنازعين على الحقوق الأدبية كسوء الأدب أو التطاول بالسب والشتم أو الضرب , أم المالية العينية كالتنازع على الأراضي وحدودها ومشاربها من مياه الأمطار والسيول ونحوها , وكثيراَ ما كان يوفق ــ أجزل الله له الأجر ــ في الفصل والإصلاح بين أولئك المتخاصمين .
وهذا ما أحببت أن أبثه للقارئ الكريم مما استحضرته من ذاكرتي عن هذه الشخصية , التي كان لها من اسمها الشيء الكثير من النصيب , سائلاَ المولى سبحانه له حسن القبول , وشريف المثول بين يديه سبحانه , وأن يخلف على الأشراف في مثل هذا الرجل , انه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على سيدنا وحبيبنا محمد وآله وصحبه ,
والحمد لله رب العالمين .
ملاحظة هامة :
كنت قد سطرت هذا المقال في ثنايا أيام عيد الفطر المبارك من عام 1430هـ , وأزمعت نشره عبر أمرين متتاليين : أولا : نشره في صحيفة المدينة . وثانياَ : نشره على الشبكة العنكبوتية في موقع أشراف الحجاز وما جاورها وذلك بعد نشره في صحيفة المدينة .
وقد وعدنا بنشره في صحيفة المدينة عبر أحد معارف أخينا الحبيب الشريف إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير الذي يعمل في نفس الصحيفة , إلا أنه لم يأخذ طريقه إلى النشر , بل منينا بالوعود المتتالية بنشره , ولمّا لم ينشر فقد آليت نشره في هذا الموقع مع الشكر الجزيل لصاحبه والمشرف عليه أخينا الشريف إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير , وشديد اعتذاري وأسفي لذوي الفقيد عليه من الرحمة ما يسعه علم الله .